بسم الله الرحمن الرحيم
هرقل … المستشرف!
الحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
مما جاء في صحيح السنة كما في لفظ البخاري، في خبر هرقل قيصر الروم حينما جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم)، فدعي نفرًا من قريش، وكان من بينهم أبو سفيان ابن حرب، وكان مشركًا في ذلك الوقت، فسألهم هرقل عدّه أسئلة، فأجابه أبو سفيان، ثم قال هرقل في خاتمة حواره معهم: (إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها، وسألتك: هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك عن أتباعه، أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله، وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب، وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قد قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالًا، ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله، قلت رجل ائتم بقول قيل قبله، قال: ثم قال: بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف، قال: إن يكن ما تقول فيه حقًا، فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه، لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي).
لقد استدعى هرقل في هذا الحوار معطيات الماضي في صفات الأنبياء عليهم السلام وأحوالهم مع أقوامهم، جمع بينها وبين واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرة وأصحابه في وقته، مستحضرًا حقيقة ما يدعو إليه عليه الصلاة والسلام من معالي الأمور والفضائل، فاستشرف هرقل المستقبل بحدسه وخبرته وتنبأ بأن ملك النبي صلى الله عليه وسلم سيبلغ موضع قدميه، وهو ما كان حقًا.
إن السعي إلى التأثير على المستقبل والذي هو في علم الله تعالى، عندما نتعامل معه وفق السنن الربانية بسعيٍ واجتهادٍ وتفاعلٍ مع المعطيات الحاضرة، واستدعاءٍ لوقائع الماضي والاستفادة منها، لَيَكون في الغالب بإذن الله تعالى مستقبلًا مبشرًا بخير.
يكتبه
حمد بن عبدالله الفهيد