وُلِدَتْ دَانِيَةُ دُونَ أَنْ تُبْصِرَ وَالِدَيْهَا ، فَقَد مَاتَ أَبُوهَا فِي حَادِثِ سَيْرٍ حِينَمَا كَانَتْ فِي بَطنِ أُمِّهَا ، وَمَاتَتْ أُمُّهَا إِثْرَ الْعَمَليَّةِ الْقَيْصَرِيَّةِ الَّتِي طَلَعَتْ دَانِيَةُ مِنْهَا .
تَوَلَّتْ خَالَتُهَا فَاطِمَةُ الْاهْتِمَامَ بِهَا ، وَتَحَمَّلَتْ مَسْؤُولِيَّتَهَا ، وَتكَفَّلَتْ بِكُلِّ مَا يَلْزَمُهَا ؛ اِبْتِغَاءَ الْأَجْرِ وَالْمَثُوبَةِ مِنَ اللهِ .
تَرَعْرَعَتْ دانيةُ تَحتَ كَنَفِ خَالَتِهَا التَّقِيَّةِ الْقَانَتَةِ ، فَكَانَتْ تُقَلِّدُهَا فِي صَلَاتِهَا وَدُعَائِهَا وَحَرَكَاتِهَا ، وَكَانَتْ خَالَتُهَا مَسْرُورَةً بِذَلِك .
بَلَغَتْ دَانِيَةُ السِّنَّ الْخَامِسَةَ ، فَأَدْخَلتْهَا خَالَتُهَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَعَلَّمَتْهَا الْقُرآنَ الْكَرِيمَ ، وَالَأَحَاديِثَ النَّبَوِيَّةَ ، وَأُصُولَ الدِّينِ ، وَالْقِيَمَ وَالْمَبَادِئَ الْإسْلَاميَّةَ ، وَالْأَخْلَاقَ الْحَمِيدَةَ ، فَنَشَأَتْ نَشَأةً صَالِحَةً .
كَانَتْ دَانِيَةُ تَقْرَأُ كُلًّ يَوْمٍ جُزْءًا مِنَ الْقُرآنِ الْكَرِيمِ دُونَ تَفْوِيتٍ ، مَا عَدَا رَمَضَانَ ، فَقَدْ كَانَتْ تَخْتِمُهُ كُلَّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
حَفِظَتْ دَانِيَةُ الْقُرَآنَ الْكَرِيمَ كَامِلًا فِي سِنٍّ مُبَكِّرَةٍ ؛ وَذَلِكَ بِسَبِبِ تَعَهُّدِهَا وَمُوَاظَبَتِهَا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاصِلَةِ .
تَفَوَّقَتْ دَانِيَةُ عَلَى زِمِيلَاتِهَا فِي الْمَرحَلَةِ الْابْتِدَائِيَّةِ وَالْمُتَوَسِطَةِ ، وَأَصْبَحَتْ مَحَطَّ الْأَنْظَارِ .
وَلَمَّا رَأَتْ قَرِينَاتُ السُّوءِ دَانِيَةَ أَنَّهَا قَد حَظِيَتْ بٍمَركَزٍ يَفُوقُ الْجَمِيع حَسِدنَهَا ، وَقَرَّرنَ تِدمِيرِهَا وَإغْوَائِهَا وَإفْسَادِهَا .
حَاوَلَ قَرِينَاتُ السُّوءِ التَّقَرُّبَ مِنْ دَانِيَةَ ، وَتَظَاهَرنَ بِالطَّيَابَةِ وحُبِّ الْخَيْرِ ، وَأَخَذْنَ مَعَهَا عَلَاقَاتٍ طِيِّيَةٍ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ .
اِرتَاحَتْ دانيةُ لِصَدِيقَاتِهَا الْجَدِيدَاتِ ، وَلَمْ تُدرِكْ أَوْ تُحِسُّ بِمَا يُخَبِئْنَ لَهَا فِي نُفُوسِهِنَّ .
كَانَ اِنْضِمَامُ دانيةَ مَعَ هَؤُلَاءِ الصَّدِيقَاتِ فِي الصَّفِّ الْأوِّلِ الثَّانَوِيِّ ، وَقَوِيَتْ الْعَلَاقَاتُ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ فِي حُجْرَةٍ وَاحِدَةٍ .
اِنْتًكَسَتْ دانيةُ بِالتَّدَرِّجِ دُونَ أنْ تَشَعٌرَ ، فَأخَذَتْ تَخْرُجُ وَتَسْهَرُ مَعَهُنَّ ، وَأَصبَحَتْ تَتَكَاسَلُ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي وَقْتِهَا ، وَهَجَرَتْ قِرَاءَةَ الْقُرآنِ .
عَلِمَتْ خَالَتُهَا فَاطِمَةُ بِذَلِكَ فَتَوَغَّرَ صَدرُهَا ، وَأَخَذَتْ تُفَكِّرُ فِي كَيْفَيَّةِ نُصحِهَا وَتَخْلِيصِهَا مِنْ صَدِيقَاتِهَا السَّيِّئات ؟
اِنْتَظَرَتْ خَالَتُهَا عَوْدَتَهَا مِنَ الْمَدرَسةِ ، فَلَمَّا فَتَحَتْ دانيةُ البَابَ اِسْتَقْبَلَتْهَا بِالتَّرحِيبِ وَالْبَشَاشَةِ ، ثُمَّ قَالَتْ لَهَا : اِجْلِسِي يَا قُرَّةَ عَيْنَيّ .
اِسْتَغْرَبَتْ دانيةُ ذَلِكَ المَوْقِفَ الغَيْرَ مُعتادٍ !
جَلَستْ دانيةُ على كُرسِيٍّ ، ثُمَّ أخذتْ خَالتُها كُرسيًا ووضعتُهُ مُوَاجِهًا لَهَا وَجَلَسَتْ !
بَدَأتْ خَالتُها في الحَدِيثِ مَعَها سَائلةً عَن حَالِها وَحَالِ مدرستِها وَدِرَاسَتِها ، وبعدَ أنْ غَاصَا في أَعمَاقِ الحَدِيثِ سَألَتْها عَن صَديقاتِها ؟
حَاوَلَتْ دانيةُ الْإعراضَ عَن ذلك ، وَخَاضَتْ في مَوْضُوعٍ آخَرٍ ، فَأدركَتْ خالتُها أنَّ المَوضُوعَ الَّذي سَمِعتُه صَحِيحًا .
تَرَكْتَهَا تَخُوضُ فِي الحَدِيثِ حَتَّى تَوَقَّفتْ ، ثُمَّ أعادتْ السُّؤالَ عَنْ صَدِيقاتِها ؟
فَهِمَتْ دانيةُ المَغْزَى .
قَالَتْ : إنَّ صَدِيقَاتِي فِي المدرسةِ مِنْ أَفْضَلِ وألطَفِ الفتياتِ .
فقالتْ خَالتُها : لَكِنِّي سَمِعتُ أَنَّهُنَّ مِنْ أسْوَأِ الفتياتِ خُلُقًا .
قَالتْ دانيةُ : وَمَنَ قَالَ لَكِ ذَلِكَ ؟
لَا تُصَدِّقِي كَلامَ النَّاسِ .
اِحتَارَتْ خالتُها وقالتْ في نفسِها : لقد رَبَّيتُهَا عَلَى الصِّدقِ والأمَانةِ والوفاءِ ، رُبَّما تكونُ صَادِقَةً .
اِقْتَرَبَتْ نِهَايَةُ السَّنَةِ ، وَحَانَ مَوْعِدُ الاختباراتِ ، وبعدَ ذلك ظهرتْ النتائجُ ، وكانتْ النَّتِيجَةُ صادمةً لِدانيةَ ؟
تَحطَّمتْ دانيةُ ، وأخذتْ تَلومُ نَفْسَهَا ، لِماذا رَسِبَتْ ؟ لماذا أصبَحَ حَظُّها هكذا ؟
أيعقلُ أنَّ المعلِّماتِ أخطأنَ في التَّصحيحِ ؟
ذَهَبَتْ دانيةُ إلى مُديرَةِ المدرسةِ ، ودُموعُهَا مُنْهِمَرَةٌ علَى خَدَّيْهَا ، فسألتْهَا مَا بِكِ يا دانيةُ ؟
فأَجْهَشَتْ بالبُكَاءِ وَلَمْ تستطعْ الكَلامَ .
عَرَفَتْ المديرةُ أنَّها رَسِبَتْ فِي بعضِ الموادِ ، فَهَدَّأَتَها وقَالَتْ : لا عليكِ ، سَأُحضِرُ ورقاتٍ الاختباراتِ ، وسأقومُ بمراجعتِها الآنَ .
رَاجَعَتْ مُدِيرةُ المدرسةِ إجاباتِها ، فوجدتْ أنَّهُ لَمْ تَظْلِمْها أيُّ مُعلِّمةٍ .
قَالتْ لدانيةَ : لا تَيْأَسِي ، فما زالتْ هُناكَ فُرصَةٌ في الدَّوْرِ الثَّاني .
خَرَجَتْ دانيةُ مِن مكتبِ المديرةِ ، فإذا بصديقاتِها يَنْتظِرنَها ، وقُلْنَ لها : لا تحزني ، فنحنُ كذلكَ رَسِبْنا ، وما زالَ هُناكَ أملٌ فِي النَّجاحِ ، فتنهَّدَتْ وسكنتْ .
وَصَلَ خَبَرُ رُسوبِها لِخالتِها ، فَفُجِعَتْ وأصابَها الاكتِئابَ والحُرقةَ والتَّكَدُّرَ ، وأخذتْ تلومُ نفسَها فِي التًّقْصِيرِ .
اِخْتبرتْ دَانيةُ مَعَ الرَّاسِباتِ ، وكانَ شُعورُها سيِّئًا ، وحاولتْ أنْ تَتَغلَّبَ عَلَى حِسِّها الوِجْدانيِّ ؛ منعًا للإحباطِ النَّفسيِّ .
ظَهَرَتْ نتائجُ اختباراتِ الدَّوْرِ الثَّاني ، وكانتْ دانيةُ وصَدِيقاتُها مِن ضِمنِ النَّاجِحاتِ .
لَمْ تَفْرَحْ دانيةُ كثيرًا ؛ لِأنَّ نَجاحَهَا لَمْ يَكُنْ فِي الوقتِ المناسبِ .
لَمْ تَتْرُكْ دانيةُ صَدِيقاتِها اللَّاتي كُنَّ يُزَيِّنَّ لها الحياةَ ، وكُنَّ يَقَلْنَ لها : الحياةُ حُرِّيَةٌ واستمتاعٌ ، وأنَّ السعادةَ أن تفعلَ ما تريدُ دُونَ تَقْيِيدٍ .
اِقْتنعتْ دانيةُ بِكلَامِهِمْ ، وانْتَكَسَتْ نَكْسَةً قَوِيَّةً .
أَصبحتْ دانيةُ تَخْرُجُ مُتعطِّرَةً مُتبرِّجَةً سَافِرَةً ، تَسْهَرُ مَعَ صديقاتِها فِي الأماكنِ المَشْبُوهَةِ إلَى شُروقِ الشَّمسِ ، فهتكتْ سِتْرَ الحياءِ ، وفعلتْ كُلَّ مَا يَحلُو لها ، فَسَاءَتْ سمعتُها ، وأصبحتْ حَدِيثَ النَّاسِ في كلِّ مكانٍ .
اِستاءتْ خالتُها كثيرًا ، وَحَاوَلَتْ مَنْعَها مِنَ الخروجِ ، لكنَّ دانيةَ عَقَّتْهَا ، وَشَقَّتْ عَصَا الطَّاعَةِ ، وظلَّتْ تَخْرُجُ وتدخُلُ كَيْفَما تشاءُ .
أُصِيبَتْ خالتُها بحالةٍ نفسيةٍ سِيِّئَةٍ ، فاعتزلتْ المجالسَ ، وأقفلتْ بابَ منزلِها ، واعتذرتْ عن مُقابلةِ أقاربِها وكُلّ مَنْ يزورُها ، وفضَّلتْ العُزْلَةَ التَّامَّةَ ؛ وكلُّ ذلك كانَ بسببِ دانيةُ .
بَدَأَتْ سَنَةٌ دِرَاسِيَّةٌ جَدِيدَةٌ ، وَلَمْ يَكُنْ لِدَانِيَةَ أَيُّ رَغْبَةٍ كَذِي قَبْلٍ ، فجعلتْ تتغيبُ كثيرًا ، وأهملتْ المذاكرةَ وَحَلِّ الواجباتِ ، وقالتْ في نفسِها : إذا رسبتُ هذِهِ السَّنَةِ ؛ فسأتركُ الصَّلاةَ وسأعملُ ما أعمل ؟
أَقْبَلَتْ نِهَايَةُ السَّنَةِ ، وظهرتْ النتائجُ ، وسقطتْ دانيةُ في جميعِ الموادِّ ، ولكنَّ تأثيرَ ذلك لَمْ يَكُن صَادٍمًا ؛ فقد أغْوَاها الشَّيطانُ وزَيَّنَ لها سُوءَ عَمَلِها ، فتركتْ الصَّلاةَ ، وَخَلَعَتْ حِجابَها ، وأظهرتْ مَفاتِنَها ، وأخذتْ حُرَّيَتَها التَّامَّة في فِعلِ المعاصِي .
لَمْ تُكْمِلْ دانيةُ دِرَاسَتَها ، وظلَّتْ عاطِلَةً لِعِدَّةِ سَنَواتٍ ، تُهِيمُ بنفسِها في مَلذَّاتِ الحياةِ دُونَ رَادِعٍ أوْ زَاجِرٍ .
وَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأيَّامِ ، ذهبتْ دانيةُ إلى عُرسِ إحدَى صديقاتِها ؛ بدعوةٍ خاصَّةٍ ، فلمَّا دخلتْ اِسْتَغْرَبنَ شَكْلَها واحتقرنَها ، وأخذْنَ يَنْتَقِدْنَها ويتكلمْنَ بصوتٍ خافتٍ : أينَ حِشْمَتُها وحياؤها ؟
قالتْ إحداهُنَّ : الحمدُ للهِ الذي عافاني ممِّا ابتلاها بهِ .
وقالتْ تاليةُ : سُبحانَ اللهِ ، لقد كانتْ مِن أفضلِ الفتياتِ في الأدبِ والاحتشامِ والاحترامِ .
وقالتْ أُخْرَى : اللهُّمَّ يَا مقلِّبَ القلوبِ ، ثَبِّتْ قلبِي علَى دينِك .
لَاحَظَتْ دانيةُ نَجْوَاهُنَّ وَنَظَرَاتِهُنَّ ، وأحسَّتْ بِأنَّ سِهامًا قد أصابتْهَا في فُؤادِها ؟
جَلَسَتْ علَى إحدَى الطَّاوِلَاتِ مُتَجَاهِلَةً نجواهُنَّ ونظراتِهُنّ .
جَاءَتْ إحدَى زَمِيلَاتِها إلَيْهَا ، ثُمَّ سَلَّمَتْ عليها وجلستْ بِجانبِها ، وقالتْ لدانيةَ : هلْ عَرَفْتِيني ؟
قالتْ : نعم ، أنتِ خلودُ الَّتي كانتْ تأخذُ واجباتي .
ثُمَّ جاءتْ الواحدةُ تِلْوَ الأُخرَى ، وجلسْنَ علَى نفسِ الطَّاولةِ .
رَحَّبَتْ دانيةُ بزميلاِتها اللًّاتي جَلَسْنَ ، وأخذتْ تسألهُنَّ ، فوجدتْ مَنْ أصبحتْ طبيبةً ، وَمَنْ أصبحتْ معلمةً ، ومن واصلتْ دراساتِها العُليا فأصبحتْ دكتورةً ..
لَاحَظَتْ دانيةُ الفخرَ والعزَّ والوجاهةَ ، والسَّعادةَ والبَهْجَةَ وَاضِحَةً عليهِنَّ ، فحسدتهُنَّ وتمنَّتْ أن تكونَ مِثْلهُنَّ .
عَادَتْ دانيةُ إلى المنزلِ بعدَ منتصفِ الليلِ ، مُحترقةً مُتأسِفةً ممَّا آلتْ إليهِ ، وبدأتْ تحاسبُ نَفْسَها ، فقد كانتْ تفوقُهُنَّ ذكاءً ، وَشَرَعَتْ في تأنيبِ نفسِها : ما سببُ وصولهنَّ إلى ذلك ؟
وما سببُ وصولي إلى ذلك ؟
وبعدَ عُمْقِ التَّفْكِيرِ ، عرفتْ أنَّ السببَ الذي هَدَمَ مستقبلَها ، وَحَوَّلَ حياتَها إلى جحيمٍ وشَقاوةٍ ؛ هُنَّ قريناتُ السُّوءِ ، هُنَّ صديقاتها الخبيثاتُ العاصياتُ الباغياتُ ، اللَّاتي أغوَيْنَها ودمَّرْنَها عَنْ عَمْدٍ ، فَنَدِمَتْ أشدَّ النَّدمِ .
قَامَتَ دانيةُ فتوضَّأتْ ، ثُمَّ لَبِسَتْ عباءَتها وخِمارَها ، ثُمَّ صَلَّت ركعتيْنِ لِله ، ثُمَّ رفعتْ يَدَيْهَا تدعُو اللهَ بقلبٍ خاضعٍ مُنْكَسرٍ قائلةً : اللهمَّ لكَ أسلمت ، وبكَ آمنت ، وعليكَ توكلت ، وإليكَ أنبت ، أعوذُ بعزَّتِكَ لا إلهَ إلا أنتَ أن تُضِلَّني ، أنت الحيُّ الَّذي لا تموتُ ، فَاغْفِرْ لي ما قَدَّمت وما أخَّرت ، وما أَسْررت وما أَعْلَنْت ، اللهُمَّ إنِّي أستغفِرُكَ مِن كلِّ ذنبٍ أذنبتُه ، تعمدتُهُ أو جهلتُه ، أستغفِرُكَ مِن كُلِّ الذنوبِ التي لا يَعلمُها غيرك .
وبعدَ الدُّعاءِ أزالَ اللهُ الرَّانَ الذي علَى قلبِها ، فأبصرتْ مفاتيحَ الخيرِ والاستبشارِ ، وأحسَّتْ بسعادةٍ وانشراحٍ لم يَسْبِقْهُما مثيلٌ .
أخذتْ دانيةُ المصحفَ ، وبدأتْ بقراءةِ الفاتحةِ وسورةِ البقرةِ ، وما إِنِ انتهتْ مِن قرائتها إلَّا والمُؤذِّنُ يُؤذِّنٌ لصلاةِ الفجرِ .
قامتْ دانيةٌ وأخذتْ سجَّادَتها ، ثُمَّ صَلَّتِ السُّنَةَ الرَّاتبةَ ، ثُمَّ صَلَّتِ الفجرَ ، ثُمَّ فَاهَتْ بالأذكارِ الواردةِ بعدَ الصَّلاةِ ، ثُمَّ بأذكارِ الصَّباحِ .
أَشْرَقَ يَوْمٌ مُمَيَّزٌ آسِرٌ لِقلبِ دانيةَ ، أحسَّتْ فيهِ أنَّها وُلِدَتْ مِن جديد ، فَشَكَرَتْ وحمدتِ اللهَ سبحانَهُ وتعالَى على نعمِهِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى ، وَحَمِدَتِ اللهَ أنْ أمدَّ في عُمُرِها وهَداهَا إلى الصِّراطِ المستقيم .
وهكذا عَادتْ دانيةُ إلى الطَّريقِ الصَّحيحِ ، طريقِ الحقِّ والصَّوابِ ، طريقِ النُّورِ والضِّياءِ ، طريقِ الفلاحِ والنَّجاحِ ، طريقِ السَّعادةِ الأبديَّةِ .
وعَرَفَتْ أنَّ بابَ التوبةِ مفتوحٌ ، وأنَّ اللهَ يَقْبَلُ توْبةَ العبْدِ مَالَم يُغرْغِر ، وأنَّ اللهَ تَعَالَى يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوبَ مُسيءُ النَّهَارِ ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها ، وأنَّهُ مَهْمَا عَمِلَ المسلمُ مِنْ سيئاتٍ ، ثُمَّ تابَ تَوْبَةً نصوحًا ، كَفَّرَ اللهٌ عنهُ جميعَ سيئاتِهِ .
وبعدَ ارتفاعِ الشَّمسِ قيدَ رُمْحٍ ، صلَّتْ دانيةُ صلاةَ الضُّحَى ، ثُمَّ عزمتْ على الذهابِ إلى خالتِها ؛ لِتعتذرَ مِنْها .
طَرَقَتْ دانيةُ بابَ غُرفةِ خالتِها فاطمةَ ، ثُمَّ دخلتْ عليها ، فوجدَتْهَا في حَالةٍ يُرثَى لها ، فسلَّمَتْ عليْها وقبَّلتْ رَأسَها ، ثُمَّ جلستْ بجانبِها وقالتْ : أرجوكِ سامحيني يا خالتي ، فقد ندمتُ علَى كلِّ تَصَرُّفاتي وأفعالي السَّيِّئةِ .
أَمْسَكَتْ دانيةُ بِيَدَيْ خالتِها ، وظلَّت تبكي جاثمةً على ركبتيْها مدةً طويلةً ، فلمَّا رأتْ دُموعَها تتساقطُ مِن عَيْنَيْهَا ، عِنْدَها أيقنتْ صِدقَ توبتِها وندمِها .
فَرِحَتْ خالتُها كثيرًا ، وشعرتْ بسعادةٍ غامرةٍ ، وأحسَّتْ بأنها عادتْ إلى طبيعتِها ، ثُمَّ قالتْ لدانيةَ مُلاطِفةً : سَامَحَكِ اللهُ وعفا عنكِ ، ووفَّقَكِ وأسعدكِ في الدُّنيا والآخرةِ .
شكرتْ دانيةُ خالتَها على رِقَّتِها ، وصفاءِ قلبِها ، وحبِّها لها ، وعاهدتها على السَّمْعِ والطَّاعةِ مَدَى الحياةِ ؛ لأنَّ لها فضلٌ كبيرٌ بعدَ اللهِ في تربيتها والاهتمامِ بِها .
أخبرتْ دانيةُ خالتَها بأنَّها ستواصلُ دراستَها ، وأنَّ لديها إرادةٌ قويةٌ في استعادةِ مواهبِها وقُدراتِها .
عَزَمَتَ دانيةُ على تركِ صديقاتِها السَّيِّئاتِ ، وقطع العلاقاتِ التي بينَهُنُ ، فغيَّرتْ رقمَ هاتفِها ، وسألتِ اللهَ أنْ يحبِّبَ إليها الإيمانَ ، وأن يزينَهُ في قلبِها ، وأن يكرِّهَ إليها الكُفْرَ والفُسوقَ والعِصيان ، وأن يجعلَها مِنَ الرَّاشِدات .
عَادَتْ دانيةُ إلى لِبَاسِ التَّقْوَى ، إلى درعِها الحصِين ، إلى حجابِها الشَّرعيِّ ، عَادَتْ إلى المُحافظةِ على الصَّلواتِ في أوقاتِها ، وبدأتْ تراجعٌ ما نَسَتْهُ مِن حفظِها للقرآنِ الكريمِ .
اِستأنفتْ دانيةُ دراستَها ، وبدأتْ بدافعيةٍ قَوِيَّةٍ ، واستطاعتْ استعادةَ ثقتِها في نفسِها ، وتغلَّبتْ على كُلِّ الصِّعابِ ، وتخرجتْ بفضلِ اللهِ من الثَّانويةِ بنسبةٍ كاملةٍ .
وبعدَ تخرُّجِهَا فتحَ اللهُ عليْها ، فشاركتْ في أكثرَ من مسابقةِ ، وحازتْ على لقبِ حافظةِ القرآنِ .
سجَّلتْ دانيةُ في الجامعةِ الإسلاميةِ تخصصَ شريعةٍ ، وتمَّ قبولُها ، واجتهدتْ وثابرتْ ، ونالتْ وسامَ الشَّرفِ ، وأكملتْ دراساتِها العُليا ، وأخذتِ الماجستيرَ ، ثُمَّ الدكتوراة ، وحظِيَتْ على مكانةٍ ووظيفةٍ مرموقةٍ .
ولم تقفْ عِنْدَ ذلك ، بلْ كرَّستْ حياتَها في تعليمِ الأُمِّيَاتِ والفتياتِ القرآن والفقه والحديث ، وما ينفعَهُنَّ في حياتِهِنَّ ، وأنشأتْ لَهُنَّ دارًا على حِسَابِها ، وَوَهَبَتْ جُزْءًا مِنْ راتبِها لِلْأُسَرِ المُحتاجَةِ .
اِسْتَمَرَّتْ دانيةُ حامدةً شاكرةً لربِّها ، داعيةً لخالتِها ، داعيةً لكلِّ المسلمين والمسلماتِ بالخيرِ والهدايةِ والصَّلاحِ ، فنالتْ رِضا اللهِ ومحبَّة الناسِ ، وعاشتْ في سعادةٍ واطمئنانٍ وراحةِ بالٍ .
تأليف : مهدي جدُّه حكمي