كُلَّما مَضَى يومٌ مِن أعمارٍنا أدركنا رحيلَ الأيَّام ، أدركنا أنَّ بعضَ ما فاتَ مات ، وأنَّ بعضَها لم يمُتْ ، وليس بمقدورِنا استرجاعُ لحظةٍ مرَّتْ ، ولكن باستطاعتِنا أنْ نستعيدَ أشياءً مضتْ ! ما هي ؟
إنَّها الذِّكرياتُ الَّتي رُسمتْ على لوحاتِ قلوبِنا ، وثبَّتها العقلُ بحبرٍ لا ينضب ، فمنها ما هو وَسَم ، ومنها ما هو وَشَم ، ومنها ما هو نقْش ، ومنها ما هو رقْش .
ذكرياتْ ترمِينا بسهمِ العاطفةِ ؛ فتشعرُنا بالتَّعلقِ والصَّبابةِ ، واللوْعةِ والمُواساةِ ، والألَمِ والوَصَبِ ، ذكرياتٌ تُحلِّق بِنا في عالمٍ خياليٍّ جميلٍ ، تبهِجُنا لحظةً ، وتحزِنُنا لحظةً أُخرَى .
ذكرياتٌ قد تأْفَل لعدمِ رغبتِنا فيها ، وذكرياتٌ قد تنكِصُنا على أعقابِنا فنندمُ على استرجاعِها ، وذكرياتٌ طعمُها مُرٌّ تعلَّمنا مِنها الدُّروسَ ، وذكرياتٌ جميلةٌ خفيفةُ الظلِّ ، وهي الَّتي تمحي كلَّ ما سبق .
لا ريبَ أنَّنا تفاجأنا بأمورٍ كالعجاج ، وتذوقنا الأُجاج ، وصفعتنا الأمواج ، وتعكرنا في المزاج ، وداهمتنا أفكارٌ وهمومٌ كماءٍ ثجَّاج ، وأشواكٌ مُحاطةٌ بسياج ، وأمورٌ ليس علاج .
أفراحٌ وأتراح ، آلامٌ وآمال ، نعيمٌ وجحيم ، أفضل وأمثل ، سرور وحبور ، متضاداتٌ تجمعُنا ، ومرادفاتٌ تدفعُنا .
لا أحدَ يسلمُ من منغِّصاتِ الحياة ، وفقدان الأمل ، وفوات الفرص ، لكن يبقى هناك شيءٌ يثبِّتُنا ويحمينا من شظاياها .
وعلى عكسِ ذلكَ فهناك أيامٌ جميلةٌ ، قد عشناها ولن ننساها ، وعلى قِصَرِ وقتِها لكنَّ مفعولها أقوَى ، تبعثُ في النَّفسِ الأملَ وعدم اليأسِ .
هُناكَ أيَّامٌ أجمل وأحلَى وهي في الطفولةِ ، وهناك أيامٌ أرقَى وهي في المراهقةِ ، وهناك أيامٌ أنسبُ وهي في الشَّبابِ .
لكنْ لماذا نراها جميلةً ؟
أهو الندمُ على ما مضَى مِن العمرِ ؟
أم أنَّ تلك الأيَّام كانت خاليةً من المسؤوليات ؟
أم أنَّ تلك الأيام هي الأجملُ مِن غيرِ أسباب ؟
انظر إلى النبتةِ الَّتي حفرتَ لها ورويتها ، تكبرُ شيئًا فشيئًا ، وأنتَ تلاحظُها ولا تتركُ مراقبتَها ، ثم بعد فترةٍ يَقِلُّ الاهتمامُ بها تدريجيًّا ، ثم يأتي وقتٌ لتنشغلَ عنها أو تتركها ، ثم يأتي وقتٌ فتسقط أو تيبس .
كذلك مراحلُ أعمارِنا مثل تلك النَّبتة ، الطفولةُ هي الأجملُ ؛ لأنها بدايةُ أيام البراءةِ والطُّهر والنَّقاءِ ، ثم المراهقةُ ؛ لأنها تاليةٌ مُنتظرةٌ ، ثم الشبابُ ؛ لأنه أيامُ الطموحاتِ والتَّصورِ الخيالي الواعد ، ثم أيامُ الرجولةِ وهو كمالُ النضج العقليِّ ، ثم الكهولةُ وهي أيامُ استرجاع الذكريات والاستعدادِ ليومِ الرَّحيلِ .
عِندَما كَبِرنا رأينا الحياةَ على حقيقتِها ، رأينا ما كُنَّا نشاهده ولا نعرفُ حقيقته ، رأينا الظَّلمَ والخيانة ، والغشَّ والكذب والافتراء ، رأينا الإفكَ والدجلَ والغدرَ ، رأينا أشياءً يشيبُ لها الولدان ، كوارثٌ ومصائبٌ تجعلُ الإنسانَ يتأجَّجُ لظىً وحسرة .
لكنْ أيعقلُ أنَّهُ لم يكن موجودًا مثلُها في ماضينا ؟
لماذا لم نحسّ بها أو نشاهدُها في مرحلةِ الطفولةِ ؟
ربما كانت موجودةً ، أو ربما كانت بصورةٍ أقلّ ، قد شاهدناها ولم نحسَّ بها ؛ لأننا كُنَّا لا نعرفُ صورتَها الحقيقيةِ ، وكنا لا ندركُ ما ترمي إليه ؛ لأنَّ صفحاتِ عقولنا كانت بيضاءَ ، وقلوبنا مثل المسكِ .
ما أجملَ ماضينا الذي طوته صفحاتِ الأيَّام ، الذي طوته بخيرهِ وشرِّه ، ولكن يبقى الأملُ موجودًا في تصحيحِ ما تبقَّى ، لعلَّ اللهَ أنْ يُحسِنَ خواتيمنا ، فنلقى اللهَ بقلوبٍ سليمةٍ خاليةٍ مِنَ الشِّركِ والنِّفاقِ ، والحقدِ والحسدِ والضَّلال .
تأليف : مهدي جدُّه حكمي